جلس سليمان في مجلس الملك وسط رؤساء قومه ووزرائه وقادة جنده وعلمائه.. كان يفكر في بلقيس.. يعرف أنها في الطريق إليه.. تسوقها الرهبة لا الرغبة.. ويدفعها الخوف لا الاقتناع.. ويقرر سليمان بينه وبين نفسه أن يبهرها بقوته، فيدفعها ذلك للدخول في الإسلام
أمر سليمان ببناء قصر يستقبل فيه بلقيس. واختار مكانا رائعا على البحر وأمر ببناء القصر بحيث يقع معظمه على مياه البحر، وأمر أن تصنع أرضية القصر من زجاج شديد الصلابة، وعظيم الشفافية في نفس الوقت، لكي يسير السائر في أرض القصر ويتأمل تحته الأسماك الملونة وهي تسبح، ويرى أعشاب البحر وهي تتحرك.
تم بناء القصر، ومن فرط نقاء الزجاج الذي صنعت منه أرض حجراته، لم يكن يبدو أن هناك زجاجا. تلاشت أرضية القصر في البحر وصارت ستارا زجاجيا خفيا فوقه.
وجمع سليمان أهل الرأي من الإنس والجان, وقال لهم: { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين}.
وعرش بلقيس هو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقتحكمها، قبل قدومها عليه
و هذا العرش هو أعجب ما في مملكتها.. كان مصنوعا من الذهب والجواهر الكريمة،
وكانت حجرة العرش وكرسي العرش آيتين في الصناعة والسبك.. وكانت الحراسة لا تغفل عن العرش لحظة..
فوقف عفريت من الجن وقال:{ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك}
يعني: قبل أن ينقضي مجلس حكمك، وكان فيما يقال من أول النهار إلي قريب الزوال يتصدىلمهمات بني إسرائيل وما لهم من الأشغال
(وإني عليه لقوي أمين) أي: وإني لذو قوة علىإحضاره وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة
قال الذي عنده علم الكتاب
) المشهور أنه آصف بن بزخيا وهو ابن خالة سليمان،
وقيل: رجل من مؤمني الجان كان فيمايقال يحفظ الاسم الأعظم، وقيل: رجل من بني إسرائيل من علمائهم،
وقد قيل فيه قولرابع وهو جبريل،
(أنا آتيك بما قبل أن يرتد إليك طرفك)
قيل: معناه قبل أن تبعثرسولاً إلي أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ثم يعود إليك.
وقيل في الوقت الذي تستغرقه العين في الرمشة الواحدة.
لكن السياق القرآني ترك الاسم وحقيقة الكتاب غارقين في غموض كثيف مقصود.. نحن أمام سر معجزة كبرى وقعت من واحد كان يجلس في مجلس سليمان.. والأصل أن الله يظهر معجزاته فحسب، أما سر وقوع هذه المعجزات فلا يديره إلا الله..
وهكذا يورد السياق القرآني القصة لإيضاح قدرة سليمان الخارقة، وهي قدرة يؤكدها وجود هذا العالم في مجلسه.
(فلما رآه مستقرعنده) أي: فلما رأى عرش بلقيس مستقراً عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إليبيت المقدس في طرفة عين (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) أي: هذا من فضلالله علي وفضله على عباده ليختبرهم على الشكر أو خلافه ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) أي: إنما يعود نفع ذلك عليه (ومن كفر فإن ربي غني كريم) أي: غني عن شكر الشاكرين،ولا يتضرر بكفر الكافرين.
ثم أمر سليمان عليه السلام أن تغير حلي هذا العرش وتنكرلها ليختبر فهمها وعقلها،
ولهذا قال: (ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون)
وعند دخول ملكة سبأ هذا القصر، وقع نظرها على العرش،
قال سليمان وهو يراها تتأمل العرش: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟}
قالت بلقيس بعد حيرة قصيرة: {كَأَنَّهُ هُوَ!}
وهذا من فطنتها وغزارة فهمها؛ لأنهااستبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ولم تكن تعلم أن أحداً يقدرعلى هذا الصنع العجيب الغريب،
قال سليمان: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}.
توحي عبارته الأخيرة إلى الملكة بلقيس أن تقارن بين عقيدتها وعلمها، وعقيدة سليمان المسلمة وحكمته. إن عبادتها للشمس، ومبلغ العلم الذي هم عليه، يصابان بالخسوف الكلي أمام علم سليمان وإسلامه.
لقد سبقها سليمان إلى العلم بالإسلام، بعدها سار من السهل عليه أن يسبقها في العلوم الأخرى، هذا ما توحي به كلمة سليمان لبلقيس..
أدركت بلقيس أن هذا هو عرشها، لقد سبقها إلى المجيء، وأنكرت فيه أجزاء وهي لم تزل تقطع الطريق لسليمان.. أي قدرة يملكها هذا النبي الملك سليمان؟!
وأمرت بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره فيه:
(فلمارأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسيوأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)
فلما أقبلت بلقيس لدخول القصر، رأت أمامها الماء، ولم تر الزجاج، فكشفت عن ساقيها خوفًا من أن يبتل ثوبها، فأخبرها سليمان أن أرضية القصر مصنوعة من زجاج،
وقد قيل: إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عندسليمان وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليهما من الشعر فينفره ذلك منها وخشوا أنيتزوجها؛ لأن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه
وهذا التفسير يقال إنه اسرائيليات
انبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصلاته لله، مثلما انبهرت بما رأته من تقدمه في الصناعات والفنون والعلوم.. وأدهشها أكثر هذا الاتصال العميق بين إسلام سليمان وعلمه وحكمته.
انتهى الأمر واهتزت داخل عقلها آلاف الأشياء.. رأت عقيدة قومها تتهاوى هنا أمام سليمان، وأدركت أن الشمس التي يعبدها قومها ليست غير مخلوق خلقه الله تعالى وسخره لعباده، وانكسفت الشمس للمرة الأولى في قلبها، أضاء القلب نور جديد لا يغرب مثلما تغرب الشمس.
يتجاوز السياق القرآني استقبال سليمان لها إلى موقفين وقعا لها بتدبيره:
الأول موقفها أمام عرشها الذي سبقها بالمجيء، وقد تركته وراءها وعليه الحراس.
والثاني موقفها أمام أرضية القصر البلورية الشفافة التي تسبح تحتها الأسماك.
فلما رأت الملكة هذه الآيات
فخجلت من جهلها, وأقرّت لسليمان بالنبوّة, ولربه بالعظمة والقوّة,وقالت في حماسة ويقين:
ربّ, إني ظلمت نفسي بعبادة الشمس, وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
يسكت السياق القرآني عن قصة بلقيس بعد إسلامها.. ويقول المفسرون أنها تزوجت سليمان بعد ذلك..
ويقال أنها تزوجت أحد رجاله.. أحبته وتزوجته،
وثبت أن بعض ملوك الحبشة من نسل هذا الزواج..
ونحن لا ندري حقيقة هذا كله.. لقد سكت القرآن الكريم عن ذكر هذه التفاصيل التي لا تخدم قصه سليمان.. ولا نرى نحن داعيا للخوض فيما لا يعرف أحد..
وللحديث بقية إن شاءالله
والسلام عليكمورحمة الله وبركاته