فصل [ في أعظم العقوبة عدم الإحساس بفداحة الذنب ]
أعظم المعاقبة ألا يحس المعاقب بالعقوبة , وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة , كالفرح بالمال الحرام , والتمكن من الذنوب . ومن هذه حاله لا يفوز بطاعة .
وإني تدبرت أحوال أكثر العلماء والمتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها , ومعظمها من قِبل طلبهم للرياسة . فالعالم منهم , يغضب إن رُدّ عليه خطؤه , والواعظ متصنع بوعظه و المتزهد منافق أو مراء . فأول عقوباتهم , إعراضهم عن الحق شغلاً بالخلق . ومن خفيّ عقوباتهم , سلب حلاوة المناجاة , ولذة التعبد .
إلا رجال مؤمنون , ونساء مؤمنات , يحفظ الله بهم الأرض , بواطنهم كظواهرهم , بل أجلى , وسرائرهم كعلانيتهم , بل أحلى , وهممهم عند الثريا , بل أعلى . إن عرِفُوا تنكروا , وإن رئيت لهم كرامة , أنكروا , فالناس في غفلاتهم وهم في قطع فلاتهم , تحبهم بقاع الأرض , وتفرح بهم أملاك السماء , نسأل الله عز وجل التوفيق لإتباعهم , وأن يجعلنا من أتباعهم .
فصل [ اغتنام الوقت في التحصيل ]
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه , وقدر وقته , فلا يضيع منه لحظة في غير قربة . ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل . ولتكن نيته في الخير قائمة , من غير فتور , ربما لا يعجز عن البدن من العمل , كما جاء في الحديث : ( نية المؤمن خيرٌ من عمله ) وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات . فنقل عن عامر ابن عبد قيس أن رجلاً قال له : ( كلمني , فقال له : ( أمسك الشمس ) . وقال ابن ثابت البناني : ذهبت ألقن أبي , فقال : ( يا بني دعني , فإني في وردي السادس ) .
ودخلوا على بعض السلف عند موته , وهو يصلي , فقيل له , فقال : ( الآن تطوى صحيفيتي ) .
فإذا علم الإنسان – وإن بالغ في الجد – بأن الموت يقطعه عن العمل , عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته , فإن كان له شيء من الدنيا وقف وقفاً , وغرس غرساً , وأجرى نهراً , ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده , فيكون الأجر له , أو أن يصنف كتاباً من العلم , فإن مُصنّف العالم ولده المخلد , وأن يكون عاملاً بالخير , عالماً فيه , فينقل من فعله ما يقتدي الغير به . فذلك الذي لم يمت .
فما قوم بأمواتٍ وهم في الناس أحيـاءُ .