ركعة تلو الركعة ، وسجدة تلو السجدة .. أنهت [ رانيـــا ] صلاتها مسلّمة يمينًا ويسارًا ..
ما إن قامت من على سجادتها ، حتى رن جــــــوالها صغير الحجمـ الموضوع بجانب سريرها ..
" من يمكن أن يتصــــل بي الآن ؟! " هكذا تمتمت [ رانيـــا ] بداخلها عندما سمعت رنين هاتفها ..
التقطت هاتفها لترد وهنـــــا بدأت المكالمة الهاتفية ..
[ رانيـــا ] بهدوء : " ألــــو ؟ الســـــلامـ عليكمـ ! "
[ ؟ ] : " وعليكِ الســــلامـ ورحمة الله وبركاته .. "
[ رانيـــا ] بعدما أدركت من يحادثها بالهاتف : " [ عبيـــــر ] ؟ أهذه أنتِ ؟ "
[ عبير ] : " هي بشحمها ولحمها .. كيف حالكِ ؟ اشتقنا لكِ يا فتاة ! "
[ رانيـــا ] : " الحمد لله في أحسن حال ، ماذا عنكِ ؟ صدقيني فإن إشتياقكِ لي لن يعدل حتى
ربع إشتياقي لكِ ولأهلــــكِ يا فتاة ! "
[ عبير ] بضحكة خفيفة : " الحمد لله .. كيف كانت رحلتكِ ؟ على أمل أنها لمـ تكن شاقة ؟! "
[ رانيـــا ] : " لا .. لا تقلقي .. لا بأس بها .. "
تابعت [ رانيـــا ] حديثها : " يبدو أن هنالك أمرًا مهمًا جراء هذا الإتصال أمـ أنني مخطئة ؟ "
[ عبير ] وقد اتسعت عيناها : " ماذا ؟ أبهذه السهولة نسيتي الموضوع ؟ "
[ رانيـــا ] وقد بدا عليها التفاجئ : " أي موضوع ؟! "
[ عبيــــر ] : " ألمـ أخبركِ قبل سفركِ أننا سنذهب لنسجلكِ بالمدرسة الثانوية التي ستدرسين فيها ؟ أمـ أنكِ تفضلين أن يذهب والدكِ عوضًا عنا ؟ "
[ رانيـــا ] : " صحيــــح ! .. ممممممـ .. أفضِّل أن يذهب والدي .. فما عندي إستعدادٌ لأذهب إلى المدرسة منذ الآن "
[ عبير ] بتذمر : " وماذا عن لوازمـ المدرسة ؟ إيَّاكِ أن تقولي لي أنها مهمة والدكِ ايضًا ؟ "
[ رانيـــا ] : " لا لا لا .. هذه مهمتي أنا .. حسنٌ .. إنتظـــريني ريثما أرتدي ثيابي "
[ عبير ] : " حسنٌ .. نلتقي بالقرب من المكتبة العمومية "
[ رانيـــا ] : " إن شاء الله "
هنـــــا إنتهت المكالمة الهاتفية بين [ رانيـــا ] و [ عبير ] .
[ عبير ] تكون هي ابنة عمـ [ رانيـــا ] الوحيد ..
فلمـ يكن لــــ [ رانيـــا ] أعمامـ سوى عمها هذا ، وخال وخالة من أقرباء والدتها ..
[ عبير ] لا تقلّ جمالاً عن [ رانيـــا ] ، فهي ذات شعرٍ أسود قاتمـ امتزج بلمعة كحلية اللون ،
طويل يصل لفخذها ،وعيناها سوداء بطـــوقٍ كحلـــي اللون ، بشرتها بيضاء متوردة ،
وهي بمثل عمر [ رانيـــا ] ، ابنة الخامسة عشر ربيعًا ..
انطلقت [ رانيـــا ] تستئذن والديها بالذهاب للمكتبة ، فلمـ تجد عند أيٍ منهما أي إعتراضٍ البتة ،
شريطة أن تعود مبكرة وقبل هبوط الظلامـ .. صعدت غرفتها ترتدي ثيابها ..
ثيابٌ محتشمة تدل أنها تسير على دينٍ حنيفٍ ، تنورة سوداء قاتمة اللون طويلة ثقيلة القماش ،
وقميض طويل الأكمامـ أبيض اللون تخلله اللون الاسود ، يصل طوله إلى فخذ [ رانيـــا ] ..
وبالطبع حجابها الكامل والمكتمل .. وخرجت من المنـــزل ..
● ● ●
انتصفت الشــــمس بأشعتها الدافئة وبريقها الذي إنعكس على عيني [ رانيـــا ] المخضرّتين في كبد السماء الصافية ،
وداعب نسيمـ الصيف الدافئ ثيابها ، وسط هذا الجو البديع سارت [ رانيـــا ]
بالطريق المؤدي للمكتبة العمومية .. إلى أن وصلت إلى التقاطع الفاصل بينها وبين المكتبة ..
" كل شيءٍ إلى الآن على ما يرامـ .. والحمد لله " .. هكذا همست [ رانيـــا ] تطمئن نفسها .
ازدحمـ المشاة أمامـ الإشارة المرورية ، مترقّبين ظهور الإشارة الخضراء لتسمح لهمـ بالمرور ..
" أمـــــي .. اشتري لي تلك البالونات الملونة " قالها طفل بدا في الثالثة من عمره
مشيرًا إلى بائع البالونات المتجول الواقف في الطرف الآخر من الشارع ، محدَّثًا والدته ،
ردت عليه والدته : " اصبر إلى أن نعبر الشارع ، فلا يجوز أن نمر هكذا " ..
بكى الصغير وقال :" لا يهمني .. أريد تلك البالونات حالاً .. " وازداد بكاؤه ..
حاولت الوالدة التهدئة من روعه .. فما نجحت ..
انطلق الطفل ذو ثلاث سنين نحو البائع غير مكترثٍ للسيارات المنطلقة بسرعة ..
" يا إلهـــــي .. ستدهس السيارات ذاك الطفل ! " هكذا صرخ بعض المشاة الواقفين بالقرب من
الإشارة مترقبين ما الذي سيحدث خائفين عليه ..
دون وعيٍ .. انطلقت [ رانيـــا ] نحو الصبي لا ترَ سواه ..
وبالمقابل انطلقت سيارة بسرعة جنونية نحوه ،
جرته [ رانيـــا ] نحوها في آخر لحظة .. نتفس الحضور الصعداء بنجاتهما ،
إلا أن فرحتهمـ لمـ تدمـ ..
فقد اتجهت صوب [ رانيـــا ] والطفل سيارة أخرى توازي سرعة التي سبقتها
لتظن [ رانيـــا ] أنها نهايتها هي والصبي .
تعالت أصوات الحـــادث الناتج عن إصطدامـ السيارة المجنونة بعمود الإنارة
.. مخلّفة ورائها غيمة كبيرة من الغبار ،وآثار العجلات التي احتكت بالطريق ،
وسط هذه الأجواء السريعة والمخيفة ,, وقف الحضور لا يحرّكون ساكنًا من دهشتهمـ ،
نادت والدة الطفل المزعج ابنها وهي تذرف الدموع تبحث عنه ، هنا بات على الحضور التأكد من أنه ليس هنالك ضحايا ..
حصلت المعجزة .. فتحت [ رانيـــا ] عينيها لترى نفسها ملقاةً على الرصيف وفي حضنها ذاك الصغير ..
لمـ ييصب أيٌ منهما بأذىً .. تجمهر الحضور الذي انقسمـ نصفهمـ يتفقدون [ رانيــا ] والطفل حولهما ،
وآخرون يتفقدون السائقين .. بدأت تتلفت حولها ، تهزُّ رأسها تارةً جهة اليمين ، وتارةً جهة اليسار ,,
" أين هو ؟ أيـــــــن ؟" هكذا بدأت [ رانيـــا ] تقول وهي تبحث وتبحث ..
سألتها الأمـ التي حضنت ابنها عن ماذا تبحث .. لتجيبها [ رانيـــا ] : " شابٌ .. أجل شاب .. هو الذي سحبني
أنا والصبي ,, يا إلهي .. آمـــل ألا يصيبه مكروه ! " ..
هنا نادى أحد الشباب الحضور : " أطلـــــبوا الإسعاف .. ثمة هنالك من أصيبت ذراعة ".
التفتت [ رانيـــا ] للخلف ، لترى شابًا يبدو هو كذلك في الخامسة عشر من عمره وقد أصيب في ذراعه اليسرى إصابة بليغة ،
سالت دمائه على إثرها ..
اتجهت [ رانيـــا ] صوب الشاب المصاب خائفة عليه ، سألته قائلةً : " أأنتَ بخير ؟ أصبتَ بمكروه ؟ " ..
رد عليها ذاك الشاب بابتسامة صفراء مصطنعة : " الحمد لله .. لا داعي للقلق " ..
" تبارك الله الذي سوّى هذه الملامح ! " هكذا قالت [ رانيـــا ] في نفسها حينما رأت ملامح ذاك الشاب ..
كان وسيمًا إلى أبعد الحدود ، أسود الشعر بلمعة بيضاء ، ناعمـ كثيفٌ ، أبيض البشرة أقرب بلونها للمتوردة ،
وذو عينان سوداء قاتمة تظهر الذكاء ..
أنزلت [ رانيـــا ] رأسها تشعر بالخجل مما حلّ بالشاب ,, فقد كانت هي السبب على حد ظنها ،
وبادرت بالإعتذار قائلة : " أ.. أنــا .. آآ .. آسفة لما حدث لك .. عذرًا منك " .
رد عليها الشاب بابتسامة لا ينظر إليها بل اتجه نظره بعيدًا عنها : " لا عليكِ .. لمـ يحدث شيء " ..
ما إن أنهى الشاب عبارته تلك حتى صرخ متألمًا ماسكًا ذراعه المدماة ..
صرخ الشاب الواقف بجانبه الذي بدا أنه صديق المصاب قائلاً : " استدعوا الإسعاف رجاءً " ..
قال أحدهمـ : " لا داعي للإسعاف ،، فلأنقله أنا بسيارتي "
ركب الشاب المصاب برفقة صديقه سيارة ذاك الرجل ، متجهين إلى أقرب مشفىً لإسعاف المصاب ..
ظلّت [ رانيـــا ] تتبع بنظراتها تلك السيارة .. متألمة لما حدث ..
" أخيرًا عثرتُ عليكِ !! أين اختفيتِ يا فتاة ؟ " قالت [ عبير ] هذا الكلامـ وهي ممسكة كتف
[ رانيـــا ] التي ما انتبهت لوجود ابنة عمها بجوارها ، إذ أنها ظلت تخمن بالخطأ الذي ارتكبته ،
ألا وهو تعريض ذاك الشاب للخطر ..
حدقت [ عبير ] بوجه [ رانيـــا ] بتعجب ، إذا أنها لمـ تعلمـ بأن [ رانيـــا ] كانت طرفًا بالحادث ..
حاولت [ عبير ] الاستفسار بسؤال [ رانيـــا ] .. فما نجحت ..
أتت والدة الطفل الصغير إلى [ رانيـــا ] لتقول لها : " لا أعرف ما الذي أقوله لكِ ..
إلاّ أن جميلكِ لي لن أنساه ما حييت ! " ..
ردت عليها [ رانيـــا ] بلطف : " لا تقولِ شيئًا يا سيدتي .. لا أستحق شكرًا .. اشكري الشاب الذي أنقذنا سويًا ،ليتأذى هو ... " ..
أجابتها والدة الصبي : " على العمومـ .. جوزيتما كل الخير يا ولداي " .. وانصرفت تلك الأمـ ..
ظلّت [ عبير ] تحدق مجددًا بوجه [ رانيـــا ] الذي بدا ملطخًا بالغبار .. لتفهمـ أنها تعرضت لذلك الحادث ..
حكت [ رانيـــا ] لابنة عمها ما حدث بالتفصيل الممل .. وطلبت منها عدمـ إبلاغ والديها بهذا الأمر خشية أن
يقلقا عليها .. استجابت [ عبير ] لابنة عمها ، فهي صديقتها المقربة لها ..
واتجهتا صوب المكتبة ..
ظلّت [ رانيـــا ] تفكر وتفكر ..
" ما عواقب هذا الحــــادث ؟ "
●●●
أرجو عدمـ الرد .. إلى أن أنتهي