أذكر أنني وقتها كنتُ أسير في الحديقة القابعة قرب الجبل ،
حيث يتنزّه الناس ، كلٌ مع أسرته ، وأنا مع أسرتي ..
كلُّ شيءٍ على ما يُرامـ ، إلاّ تلك الطفلة ، الجالسة وحدهها ،
مغطية بيدها وجهها ..
دنوتُ منها قليلاً ، فإذا بي أسمع أنينًا أشبه بالبكاء !
تساءلتُ عن السبب ، باحثة عن الخطب ..
جلستُ بجِوارها ، فإذا بها طفلة ما تجاوزت الخمس سنين ،
ذات شعرٍ أسود قاتمـ ، كأنه خيوطٌ من الليل الدامس ..
طويلٌ حريري ، وضعتُ يدي عليه ، فإذا بها غاصت بين شُعيراته ،
من شدّة غزارته !!
أحسّت الفتاة بوجودي ، بعد لمسي لشعرها ، التفتت إليّ ، مُزيحة يدها
عن وجهها ، لفت إنتباهي جمال مُحياها ، بيضـاء البشرة ، إن وُضِع القطن على وجهها
فلن يُلاحظ وجوده ، حمراء الشفتين ، سوداء العينين ، بحجمهما الكبير ..
تحمل ذاك الجمال العربي ، الذي يأسر الألباب ، كما أسر عيني وقلبي ..
ابتسمتُ في وجهها ، فابتسمت هي لي ، ابتسامة شقّت تلك الدموع ..
ممّا شجعني على محادثتها ..
أنــا : " صغيرتي .. ما يُبكيكِ ؟ "
الطفلة بصوتٍ ما زال البكاء يطبع أثره عليه : " رحـــل عنّي أهلي .."
أنــا : " تركـــوكِ بمفردك ؟ "
أومأت الطفلة برأسها غير مجيبة لســؤالي ..
حزِنتُ لأمرها ، فلمـ يبدُ من مظهرها أنها ستتحمّل البُعد عن أهلها ..
حدّثتها من جديد : " طيب صغيرتي .. صفي لي أهلك "
رفعت رأسها للأعلــى تنظر إلى السماء :
" أهلــي أهل الكرمـ والعطاء ،
أهــل الإخـلاص والوفاء ، أهــل الشجاعة والإقدامـ ، ما كتبت الأقلامـ غيرهمـ خير الأقوامـ ..
الفصاحة كانت رمز حديثهمـ ، والصدق كان حُلوَ كلامهمـ ..
أهلـــي أهل العفاف والشرف ، ناهون عن المنكر ، آمرون بالمعروف .. "
أعجبني حديثها ، فمع أنها طفلة ، ما نطق لسانها إلاّ بحلو الكلامـ ..
أجبتها : " ولا تعلميـــن لما تركوكِ ؟ ربما نسوكِ ! "
قطّبتِ الصغيرة حاجبيها ، أنزلت رأسها ، وقالت :
" منذ وِلادتي دللوني ، وعلى برهمـ ربّوني ، أحببتهمـ فالحب بادلوني ،
لكـــن ، ما ظننتُ أنهمـ بالسنين سينسوني ..
لقــوا بين ثنايا الحياة فتاتين غيري ..
مع أنني طفلتهمـ المدللة ، إلاّ أنهمـ إنشغلوا عني ..
تلك الصغيرة الشقراء ، بعينها الزرقاء ، كقطرة من السماء ..
أحبّوا حديثها ، ومدحوا أسلوبها ..
ربما السخرية أحبوا ، وربما بالشتيمة أُعجبوا ..
قالـــوا : حديثها سهلٌ جميلٌ ، سلسلٌ يسير ٌ,,
فتاةٌ أخــرى غيري أحبوا ، بشعرها البني أُسِروا ..
وسط إخضرار عينيها غاصوا ..
سلاسة حديثها خدعهمـ ، ودلالها أعماهمـ .,
حركة لسانها راقبوا .. وخلفها جروا ..
تركـــوني .. وخلف ابنتي الغرب لِحقوا ..
آنستي .. هؤلاءِ أهلــــي "
تبعتُ حديثها متسائلةً : " ما اسمكِ صغيرتي ؟ "
فإذا بها تجيبني ببيتِ القصيد :
" أنا البحرُ في أحشــاءهِ الدرُّ كامنٌ .. فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي ؟ "
نهضت من عندي ، أوقف سيرها سؤالي :
" من أنتِ ؟ "
أجـــابتني :